مفهوم الناسخ والمنسوخ
(3/5)
٥- النسخ في الشريعة الخاتمة. وهو نسخ أثناء مرحلة الوحي:
٥أ- نسخ الحديث بالقرآن: ( ونستثني اجتهادات النبي ﷺ )
والمقصود بالحديث هنا هو كل ما أمر به النبي محمد ﷺ بوحي غير القرآن. فالقرآن أمر الله وكلامه المباشر. أما الحديث فهو أمر الله أيضا لكن بكلام غير مباشر عن طريق جبريل عليه السلام.
والمثال على نسخ الحديث بالقرآن هو نسخ استقبال بيت المقدس للصلاة الذي كان في أوائل الدعوة الإسلامية. والقرآن يخبرنا أن ذلك وقع﴿ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾(١٤٢-٢) وقوله﴿ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ﴾(١٤٣-٢) فهاتان الآيتان ليست فيهما أوامر وإنما تخبران عما وقع في الماضي. فنزل القرآن لينسخ ذلك بقوله﴿ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾(١٥٠-٢). وثبت الله هذا النسخ بثلاث آيات مماثلة آمرا المسلمين باستقبال بيته الحرام. وكان منتظرا لأن النبي ﷺ كان يرجو ذلك بشوق﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ﴾ (١٤٤-٢)( أنظر فصل تطبيق قواعد النسخ ١ ). وهكذا نرى أن نسخ الحكم ليس ناتجا عن جهل بل عن علم وإحاطة بالظروف﴿ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه﴾ (١٤٣-٢)
٥ب- نسخ التلاوة والحكم:
٥ب١- المحو والتثبيت:
التثبيت: كان الله يثبت آيات بأخرى إما مماثلة لها معنى وشكلا، وإما مفصلة لها وتؤكد الآية العامة، أو بآيات تصريفية، أي نزلت بنفس المعنى لكن بطرق وأساليب مختلفة ( أنظر تفصيل التثبيت في مقدمة هذا الكتاب ) والتثبيت تأكيد من الله لبعض آياته وتعليماته وينفي نسخها: كل آية ثبتت لا يمكن أن يكون حكمها منسوخا وإلا سيعد تناقضا ( وهذا من قواعد النسخ كما سنرى في الفقرة ٥ت ب٩)
المحو: كان الله سبحانه وتعالى يمحو من وحيه ما يشاء: كانت الآية تنزل لظروف خاصة ثم يزيلها من الوحي. قال تعالى﴿ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب ﴾(٣٨-١٣) أي حسب الظروف. وعندما تتغير ينزل الأمر إما بمحو الآية المتعلقة بتلك الظروف أو بتثبيتها إلى الأبد. وسواء أثبتت أم أزيلت فالمصدر واحد لا يتغير. وهو أم الكتاب الذي عند الله والذي تصدر منه كل الآيات عبر التاريخ، ناسخات كانت أو منسوخات ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ﴾ (٣٩-١٣)
٥ب٢- استبدال الآيات بآيات أخرى:
أ- من سنن الله في وحيه وأوامره أنه قد ينزل أمرا ثم يبدله إما لابتلاء الناس أو لظروف معينة. أي لا يبدل الله أمره إلا لسبب أو لحكمة. وإذا أمر قوما بأمر فهذا لا يعني أنه عام على جميع الأقوام أو أبدي على أولئك القوم أنفسهم. فيغيره عندما تتغير ظروفهم إن هو أراد تغييره. بل قد يغيره لمجرد ابتلائهم.
- مثال في الابتلاء: أمر الله إبراهيم عليه السلام عن طريق الرؤيا بذبح ابنه. والدليل على أنه أمر قول إسماعيل لأبيه﴿ افعل ما تؤمر ﴾(١٠٢-٣٧). وكان ذلك سوى اختبارا لإبراهيم وابنه. فلما استسلما افتدي إسماعيل بذبح عظيم ( فصل إبراهيم ١٧ - ٢٦ث ).
- أما استبدال الأمر لظروف معينة فالمثال على ذلك كما رأينا استبدال استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام ( أنظر الفقرة ٥أ )
ب- استبدال الآية بخير منها أو مثلها:
قال تعالى﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾(١٠٦-٢)
قال تعالى﴿ ما ننسخ ﴾ والنسخ هو الإزالة كما جاء في قوله﴿ فينسخ الله ما يلقي الشيطان ﴾(٥٢-٢٢). فكان الرسول ﷺ يزيل الآية المعنية بالنسخ بأمر من الله ويضع مكانها الآية الجديدة. قال تعالى﴿ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ﴾(١٠١-١٦) ومعنى الاستبدال واضح في مواضيع أخرى﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ﴾(٢٠-٤)﴿ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ﴾(٩٥-٧)
أما قوله تعالى﴿ أو ننسها ﴾ فيتعلق بالآية التي تنزل ثم تنسى وتلغى قبل أن تأخذ مكانا معينا في القرآن. ثم تنزل بدلها آية أخرى وتأخذ مكانا فيه لأول مرة. فالنبي ﷺ كان يخبر المؤمنين بأن هذه الآية التي نزلت معزولة أي دون إشارة من جبريل عليه السلام بأن تأخذ مكانا في القرآن قد ألغيت ونزلت بدلها آية أخرى مع تعيين مكانها فيه. وقد يدخل في النسيان أيضا ما ينساه النبي ﷺ بأمر الله والله أعلم.
هناك إذن نوعان من الآيات التي كانت تنزل: أكثرهن آيات مع تعيين مكانهن في القرآن. فكان جبريل عليه السلام بأمر الله هو من يخبر النبي ﷺ بوضع الآية كذا في المكان كذا من السورة كذا. قال تعالى له﴿ إن علينا جمعه وقرآنه﴾ (١٧-٧٥). وأقلهن آيات منفردات أي دون تعيين مكان لهن. فيظللن معلقات حتى يتعين مكانهن أو تنزل آيات ناسخات مع تعيين مكانهن. فبعض من الآيات الأولى تم نسخهن. وبعض من الآيات الأخرى تم نسيانهن.
وما من آية نسخت أو أنسيت إلا أتى الله بأخرى في نفس الموضوع لقوله﴿ نأت بخير منها أو مثلها ﴾ أي في الأجر والتكليف. وقد تعود الآية الخيرة على التي نسخت أخرى من مكانها والآية المثيلة على التي نسخت أخرى قبل تعيين مكان لها في القرآن.
٥ت- نسخ الحكم دون التلاوة:
٥ت أ-
• في القرآن آيات "مرحلية " عمل بها المسلمون في زمن النبوة ثم تركوها ليعملوا بغيرها حسب ظروفهم. فهي ليست منسوخة الحكم بل تأخذ مكانها في المنهج الإلهي والصراط المستقيم الذي يجب على المسلمين اتباعه مرحلة بعد أخرى. وإذا زعم أحد أن هذه الآيات كلها أو بعضها منسوخ فهو يبطل منهج الله أو جزءا منه.
• فهل في القرآن النهائي آيات عمل بها المسلمون في زمن النبوة ثم أصبحت منسوخة الحكم بصفة نهائية بالنسبة لهم وللذين جاؤوا من بعدهم ؟ والجواب هو أن عددها قليل جدا كما سيتبين من هذه الدراسة.
في القرآن آية مهد الله بنسخ حكمها وهي آية الحبس في البيوت بالنسبة للزانيات المتزوجات بقوله﴿ أو يجعل الله لهن سبيلا ﴾(١٥-٤)( أنظر فصل تطبيق قواعد النسخ ١٢). وآيات لم يخبرنا الله في القرآن عن نسخ حكمها ولكن جاء في الروايات والتفاسير القديمة أن حكمها قد نسخ. فمنها ما وقع عليه اتفاق العلماء والأمة الإسلامية ومنها ما اختلف فيه.
إرسال تعليق