آخر الكتاب (8/8)
حتى الآن لم يتمكن الناس من التيقن من حقيقة نوع طوفان نوح. أكان عاما على كل الأرض أم خاصا بالمنطقة التي كان فيها قومه. خصوصا والقرآن يذكر أن الله جعل ذرية نوح هم الباقين وأن حمل في السفينة من كل زوجين اثنين قد يوحي للبعض أنه كان عاما. لكن القرآن لم يذكر أنه كان عاما. لكن مع شيء من التفكر في آيات القرآن وشيء من المنطق يتبين أنه كان خاصا بالمنطقة التي كان فيها قوم نوح.
- لو كان الطوفان عاما لأصبحت الكرة الأرضية كلها مائية ولعلا البحر بالمستوى الذي يفوق قمم جبال الأرض كلها لأن ابن نوح قال: ( قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ) (٤٣-١١) وأيضا استوت السفينة على جبل الجودي. وارتفاع علو البحر بهذا المقدار يتطلب مقادير من المياه ربما تفوق مياه البحار كلها، ولاختلطت مياهها الملحة المختلفة واختلطت أيضا بمياه الأنهار والأمطار لعدم وجود برازخ كافية لذلك. ثم إن الله لم يذكر البحار في الطوفان بل فقط مياه الأمطار الغزيرة ومياه باطن الأرض لقوله( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١-٥٤) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ((١٢-٥٤)
- لو كان الطوفان عاما لأغرق كل الدواب الحيوانية والتي خلق الله كل أنواع منها في مناطق مختلفة من كوكب الأرض. وأمر الله نوح بأن يحمل في السفينة من كل زوجين اثنين. وهذا غير كاف لإرجاع التوازن بين الحيوانات. ويعلم الله كم من الزمن مر حتى تم هذا التوازن في اليوم الرابع من الأيام الستة لخلق السماوات والأرض. كان الله يخلق آكلة النباتات أولا حتى تتكاثر بما فيه الكفاية ثم يخلق المفترسة سواء في البحر أم في البر أم في الجو. ولا ينزل نوعا حتى تتكاثر كفاية الحيوانات التي ستكون فريسة ذلك النوع. وتطلب ذلك زمنا طويلا. فتم التوازن في الأرض تدريجيا.
ثم إن الله عنده كل شيء بمقدار كما قال في القرآن وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨-١٣). فلماذا سيغرق كل الكوكب خصوصا ولم يكن فيه حينها إلا قوم نوح. في رواية عن ابن عباس. لم يكن بين نوح وآدم سوى عشرة قرون (قاله ابن جرير). أي الناس كانوا قليلون ومتمركزون في منطقة واحدة. وحتى وإن كان في الأرض قوم آخرون فالله لن يغرقهم دون إرسال رسول إليهم كما قال ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥-١٧) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (١٣١-٦) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ (٢٠٨-٢٦))
أما عن الطوفان في حد ذاته فتكون فقط من ماء مطر السماء ومن ماء باطن الأرض الذي فجر ) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١-٥٤) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ((١٢-٥٤) وهم الطوفان فقط المنطقة التي كان فيها قوم نوح لكن شملهم كلهم. وسرعة ارتفاع الماء كانت أكبر من سرعة جريان الماء في اتجاه المناطق التي ليس فيها طوفان بحيث تعدى قمم الجبال هناك وهو لا يزال يجري ويجر معه سفينة نوح كما قال تعالى ) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ )(٤٢-١١). ولو كان الطوفان عاما لما جرت بهم ولظلت تتذبذب في نفس المنطقة لأن الماء سيبقى تقريبا في مكانه وسطح الأرض كله مغطى بالمياه.
أما الحيوانات التي حملت من كل زوجين اثنين فتخص فقط التي كانت في تلك المنطقة. وربما من بينها حيوانات لم تكن إلا هناك أو لم تكن كثيرة إلا هناك. وهي المقصودة فعلا إضافة إلى الأنعام التي سيحتاج لها نوح ومن معه. لكن مع ذلك أمره الله بأن يحمل من كل زوجين اثنين لتفادي أي إهمال أو نقص. ثم مباشرة لما غرق الكفار أمر الله الأرض والسماء بحبس الماء كما قال ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ )(٤٤-١١). وظلت السفينة تجري مع جريان الماء في اتجاه المناطق التي ليس فيها فيضان حتى استوت على جبل الجودي والماء لا يزال في منطقة هذا الجبل. وهذه المنطقة لم يكن فيها طوفان في الأول ولكن الماء أتى إليها. وانتظر نوح طبعا حتى غيض الماء بكامله ثم أخرج الحيوانات المفترسة وذهب بها بعيدا وأطلقها حيث أمره الله. وظلت السفينة فوق الجودي عبر القرون. وفي ذلك آية كما قال تعالى( فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ )(١٥-٢٩). وجعل الله ذرية نوح هم الباقين. فنوح هو أبونا الثاني بعد آدم عليهما السلام.
إرسال تعليق